من الآيات الدالة على أفضلية دين الإسلام على غيره من الأديان، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده.
وأنه لا يقبل منهم ديناً سواه، ما جاء في قوله تعالى: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة: 138). نحاول في هذه السطور أن نستبين المراد من هذه الآية الكريمة.
قوله سبحانه: {صبغة الله} (الصبغ) في اللغة: تلوين الشيء بلون ما. يقال: صبغته أصبغه. و(الصبغة) هنا: اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنواناً على التوبة لمغفرة الذنوب.
والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن، إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه، أو عن أهل بيته، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضاً في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام. والنصارى إذا أرادوا أن ينصروا أطفالهم، جعلوهم في ماء زاعمين أن في ذلك تقديس لهم، بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية.
وإطلاق (الصبغة) على ماء المعمودية، أو على الاغتسال به استعارة مبنية على تشبيه تخييلي؛ إذ تخيلوا أن التعميد يُكْسِب المعمَّد به صفة النصرانية، ويلونه بلونها، كما يلون الصبغ ثوباً مصبوغاً. وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم وخُلُقهم.
والذي ذهب إليه جمهور المفسرين أن المراد بـ {صبغة الله} هو: دين الله. وهو الإسلام. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {صبغة الله}: دين الله. وهو مروي عن كثير من التابعين. فسمي (الدين) صبغة استعارة ومجازاً، من حيث ظهور أعماله وسَمْته على المتدين. وعليه فقوله سبحانه: {صبغة الله} ردٌّ على اليهود والنصارى معاً؛ أما اليهود فلأن الصبغة نشأت فيهم. وأما النصارى فلأنها سُنَّة مستمرة فيهم.
ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة تأثير الماديات على عقائدهم، رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل، المشار إليهما بقوله: {قولوا آمنا بالله} إلى قوله: {ونحن له مسلمون} (البقرة: 136)، أي: إن كان إيمانكم حاصلاً بصبغة القسيس، فإيماننا بصبغ الله وتلوينه، أي: تكييفه الإيمان في الفطرة مع إرشاده إليه. فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة، علاقتها المشابهة، وهي مشابهة خفية، حسنها قصد المشاكلة.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من قوله سبحانه: {صبغة الله}، أي: فطرة الله، كما قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30).
روي هذا عن مجاهد وغيره. والمعنى على هذا القول: بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم، من قول الله تعالى: {فاطر السماوات والأرض} (الأنعام: 14).
بمعنى: خالق السماوات والأرض. قال الرازي: معنى هذا الوجه: أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، فهذه الآثار كالصبغة له، وكالسمة اللازمة.
والظاهر أنه لا فرق بين القولين؛ إذ إن دين الإسلام هو الفطرة، ولا يخالفها في شيء. قال القاضي الباقلاني: من حمل قوله: {صبغة الله} على الفطرة، فهو مقارب في المعنى لقول من يقول: هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها.
هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع، وهو الدين أيضاً، لكن (الدين) أظهر؛ لأن المراد هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله: {قولوا آمنا بالله}، فكأنه تعالى قال: إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا، كظهور حسن الصبغة.
ثم قال الباقلاني: "وإذا حمُل الكلام على ما ذكرناه، لم يكن لقول من يقول: إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى، لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه".
وعلى كلا القولين، يكون المعنى: الزموا دين الله، وقوموا به قياماً تاماً، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم.
أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعاً واختياراً ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية، لحث الدين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور.
أما قوله عز وجل: {ومن أحسن من الله صبغة}، فهو جواب لما قالته اليهود والنصارى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}، فأمر سبحانه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم: بل اتبعوا ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصِبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشرك بالله، والضلال عن محجة هداه.
قال السعدي: "وإذا أردت أن تعرف نموذجاً، يبين لك الفرق بين صبغة الله، وبين غيرها من الصبغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيماناً صحيحاً، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح.
فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخُلُق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي.
ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه، وشَرَد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين، فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك، والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه".
وقوله سبحانه: {ونحن له عابدون} بيان لهذه (الصبغة)، وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة؛ لأن (العبادة) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك، حتى يشرعها الله على لسان رسوله.
والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده في تلك الأعمال. ووَصَفَهم باسم الفاعل (عابدون) الدال على الثبوت والاستقرار؛ ليدل على اتصافهم بذلك، وكونه صار صبغة لهم ملازماً".
والحاصل: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه: {كونوا هودا أو نصارى}، أمره أن يقول لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
وهذه الملة الحنيفية هي صبغة الله. {ونحن له عابدون}: يعني: نحن من ملة الخاضعين لله المستكينين له في اتباعنا ملة إبراهيم، ودينونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالة رسله، كما استكبرت اليهود والنصارى، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكباراً، وبغياً، وحسداً.
المصدر: موقع إسلام ويب